جثة (قصة)


استلقى على قفاه بقامته المديدة على حافة الرصيف، ترك ذراعه اليمنى تتدلى لتلامس الإسفلت، بينما شكل بكوع وعضد الذراع اليسرى زاوية قائمة أتاحت لوجهه المكدود فسحة يطل من خلالها على العالم بعينين مغمضتين، وفي قبضة الزاوية القائمة التفت أنامله بإصرار على ورقة طويت بإحكام.

وقف طفلان عند رأسه يتأملانه في اندهاش ثم ما لبث أن قال أحدهما للآخر: شمكار! وحاول أن يتبع العبارة قهقهة خفيضة، فأثناه رفيقه عن ذلك بعضة من شفتيه. خلف الطفلين توقف ثلاثة رجال –أغلب الظن- أنهم كانوا في طريقهم إلى المسجد، قال حامل المسبحة: سكير، وقال ذو اللحية الصهباء: أف من أم الخبائث، وقال ثالثهما: اللهم أخرجنا من دار العيب بلا عيب. ومع اتساع دائرة المتفرجين أخذ رأسي يثقل ويثقل حتى كاد يتدلى على صدري حينا وينثني على ظهري تارة أخرى، لما تحسسته براحتي وجدته قد نبتت فيه أزواج من الآذان، التي انبرت للحضور الكريم تسترق منه السمع: صرع.. سكران.. مس من الجن.. دليو.. سلسيون.. القرقوبي.. تينتو.. هبل تعيش.. السكري..

لفَتَ المشهدُ مجموعةً من الشباب فانضموا إلى الجوقة، بعد برهة تقدّم شاب رشح محياه بالفطنة والنباهة بـتأن نحو الجسد الممدد ثم انحنى عليه وأمسك بالسبابة والوسطى معصم الذراع المتدلية على الرصيف، ووضع سبابة ووسطى يسراه عند العنق.. -أغلب الظن أنه ممرض إن لم يكن طبيبا- وشوش أحدهم.. بعدما تحسس شرايين الجثة رفع بصره نحو المجموعة وقال إن القلب ينبض، علت الوجوه علامة الارتياح واطمأنت الأفئدة. بعد ذلك قال: ألم تنادوا على الإسعاف! ردّ آخر قد فعلت ولكنهم تأخروا في المجيء. و بإيحاء من أحد أعضاء المجموعة الشابة انحنى الشاب على القلب النابض وقام بفك قبضة يده المتشبثة في إصرار بالورقة المطوية بعناية، بالكاد أخلت أنامل الفك سبيل الورقة، سواها الشاب تأملها مليا ثم قال: هيا بنا إلى أقرب صيدلية..-أغلب الظن أنه رجل أمن- همس أحدهم في أذن آخر.

تبادل الجمع نظرات الدهشة وقال قائل: اللهم أخرجنا من دار العيب بلا عيب.. وقال: آخر أف من الجهل أبي الخبائث.. وقال ثالث: مريض مسكين أعوزه الدواء. أما أنا فقد شعرت بشيء يتساقط من رأسي الثقيل على منكبي وعلى صدري ويقع على الأرض ثم يذوي بسرعة ويجف فيتحول إلى غبار تذروه الرياح، لقد استعاد رأسي خفته وحيويته ولم تعد رقبتي تنوء بحمله…

هامش:

- إشهار -

* شمكار اسم يطلق على من يشم عادم السيارات والحافلات والشاحنات

* سيلسيون مادة تدخل في اصلاح عجلات السيارات والدرجات يستعملها البعض كمادة مخدرة

* القرقوبي أقراص طبية مهلوسة

* ديليو مادة تشبه الكحول لكنها حارقة يستعملها بعض المنحرفين كمخدر.

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد